روايـة : “مـوعـد في بـغـداد They Came to Baghdad” لأجـاثـا كـريـسـتي.

الـدّكـتـور صـبـاح الـنّـاصـري

they 1

تـكـلّـمـنـا في مـقـال “أجـاثـا كـريـسـتي في الـعـراق” عـن حـيـاة الـكـاتـبـة الـبـريـطـانـيـة أجـاثـا كـريـسـتي Agatha Christie وذكـرنـا كـيـف وصـلـت إلى الـعـراق وزارت مـوقـع الـتّـنـقـيـبـات في أور، ثـمّ كـيـف تـزوّجـت بـعـالـم الآثـار مـاكـس مـالـوان Max MALLOWAN، وكـيـف سـاعـدتـه في عـدد مـن الـتّـنـقـيـبـات الّـتي قـام بـهـا في نـيـنـوى ونـمـرود. وتـكـلّـمـنـا عـن الـكـتـب الّـتي تـذكـر فـيـهـا أجـاثـا كـريـسـتي الـعـراق أو تـقـصّ فـيـهـا تـجـربـتـهـا الـعـراقـيـة.

تـتـكـلّـم أجـاثـا كـريـسـتـي عـن الـعـراق خـاصـة في أربـعـة كـتـب : روايـتـيـن بـولـيـسـيـتـيـن : “جـريـمـة في بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن Murder in Mesopotamia”،الّـتي تـرجـمـت إلى الـعـربـيـة تـحـت عـنـوان: “جـريـمـة في الـعـراق”(1)، و« They Came to Baghdad » الّـتي تـرجـمـت إلى الـعـربـيـة تـحـت عـنـوان : “مـوعـد في بـغـداد”. وفي كـتـابَـيـن تـسـرد فـيـهـمـا ذكـريـاتـهـا : “تـعـال اخـبـرني كـيـف تـعـيـش « Come, Tell Me How You Live الّـذي صـدر في 1946. والـعـنـوان مـقـتـبـس مـن نـصّ لـويـس كـارول “مـن خـلال الـمـرآة”. وسـيـرتـهـا الـذّاتـيـة : « An Autobiography » الّـتي صـدرت في تـشـريـن الـثّـاني 1977، أي بـعـد مـا يـقـارب عـامـيـن مـن وفـاتـهـا في كـانـون الـثّـاني 1976. وهي تـذكّـر أنّـهـا بـدأت الـكـتـاب في 2 نـيـسـان 1950 في دار بـعـثـة الـتّـنـقـيـبـات في نـمـرود، وأنـهـتـه في إنـكـلـتـرة في 11 تـشـريـن الأوّل 1965. وقـد اسـتـعـمـلـت في كـتـابـتـه صـفـحـات مـن يـومـيـات ومـلاحـظـات كـانـت قـد كـتـبـتـهـا خـلال سـنـوات حـيـاتـهـا.

وقـد سـبـق أن خـصـصـنـا مـقـالاً لـروايـة أجـاثـا كـريـسـتـي : “جـريـمـة في بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن Murder in Mesopotamia”. ونـخـصـص هـذا الـمـقـال الـثّـالـث لـروايـتـهـا : “مـوعـد في بـغـداد They Came to Baghdad”.

They Came to Baghdad :

they 4

نـشـرت أجـاثـا كـريـسـتي روايـتـهـا الـثّـانـيـة الّـتي تـدور أحـداثـهـا في الـعـراق : « They Came to Baghdad » في 1951، أي بـعـد عـامـيـن مـن مـشـاركـتـهـا في تـنـقـيـبـات نـمـرود مـع زوجـهـا الـثّـاني مـاكـس مـالـوان.

وقـد تـرجـمـت هـذه الـرّوايـة إلى الـعـربـيـة تـحـت عـنـوان “مـوعـد في بـغـداد”. ورغـم أنّ كـلـمـة “تـرجـمـة” ذكـرت عـلى غـلاف الـكـتـاب، فـهـو تـلـخـيـص أكـثـر مـنـه تـرجـمـة كـامـلـة ودقـيـقـة لـلـنّـصّ الأصـلي. ويـبـدو أن هـنـاك تـرجـمـة أخـرى تـحـت عـنـوان “لـقـاء في بـغـداد”.

وهـذه الـرّوايـة عـلى عـكـس سـابـقـتـهـا : “جـريـمـة في بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن Murder in Mesopotamia” الّـتي نـشـرتـهـا أجـاثـا كـريـسـتي في 1936، مـلـيـئـة بـوصـف أمـاكـن في الـعـراق. ونـلـتـقي فـيـهـا بـعـدد مـن “الـعـراقـيـيـن”. وهي في الـحـقـيـقـة لـيـسـت روايـة بـولـيـسـيـة بـالـمـعـنى الـمـتـعـارف عـلـيـه : أي جـريـمـة غـامـضـة يـجـد لـهـا الـحـلّ مـحـقـق ذكي يـسـتـنـتـج مـن أحـداثـهـا الـمـبـعـثـرة كـيـفـيـة حـدوثـهـا ويـتـوصـل إلى كـشـف الـمـجـرم الّـذي قـام بـهـا. ولـنـقـل إنّ هـذه الـرّوايـة تـقـتـرب كـثـيـراً مـن روايـات الـتـجـسـس فـفـيـهـا تـآمـر ضـدّ أمـن الـبـشـريـة ومـجـرمـون يـحـاولـون الـسّـيـطـرة عـلـيـهـا. وقـد اسـتـغـلّـت الـكـاتـبـة خـوف الـغـربـيـيـن مـن انـدلاع حـرب عـالـمـيـة ثـالـثـة لـتـألـيـفـهـا.

وهـدفـنـا في هـذا الـمـقـال لـيـس تـلـخـيـص الـرّوايـة تـلـخـيـصـاً دقـيـقـاً أو كـتـابـة نـقـد أدبي لـنـصّـهـا، فهي تـنـتـمي إلى نـوع مـن الـنّـصـوص الـمـشـوقـة الـحـبـكـة الـسّـهـلـة الـقـراءة الـمـوجـهـة لـلـجـمـهـور الـواسـع. وإنّـمـا هـدفـنـا أن نـتـابـع وصـفـهـا لـلـعـراق والـعـراقـيـيـن والـصّـور الّـتي تـظـهـرهـا عـنـهـم. ولا شـكّ في أنّ كـتـابـات أجـاثـا كـريـسـتي شـاركـت في تـرسـيـخ بـعـض “الـكـلـيـشـيـهـات” عـنّـا في أذهـان الـغـربـيـيـن لـسـبـبـيـن : لأنّ هـذه الـصّـور تـتـسـلـل إلى الـمـخـيـلـة وتـبـقى في الـذّاكـرة بـصـورة لا إراديـة مـن خـلال مـتـابـعـة الأحـداث الـمـشّـوقـة، ولأنّ هـذه الـكـتـب نـشـرت ومـا زالـت تـنـشـر بـطـبـعـات مـتـنـوعـة وبـلـغـات مـخـتـلـفـة وبـأعـداد هـائـلـة مـن الـنّـسـخ. فـتـأثـيـرهـا يـتـجـاوز بـمـئـات الـمـرّات تـأثـيـر الـدّراسـات الـرّصـيـنـة الّـتي يـؤلـفـهـا بـاحـثـون تـصـعـب قـراءتـهـم.

كـمـا أنـني لـن أثـقـل عـلى الـقـارئ بـتـصـحـيـح كـلّ الأخـطـاء الّـتي ارتـكـبـتـهـا الـكـاتـبـة في كـلامـهـا عـن الـعـراق والـعـراقـيـيـن فـهي لـم تـكـن تـتـكـلّـم الـعـربـيـة ولـم تـعـمّـق مـعـارفـهـا بـالـمـجـتـمـع الـعـراقي وبـتـاريـخ الـبـلـد. وأنـا مـتـأكّـد أنّ الـقـارئ سـيـجـد هـذه الأخـطـاء بـنـفـسـه وسـيـضـحـك مـن بـعـضـهـا. وسـأتـرجـم الـمـقـاطـع الّـتي تـهـمـنـا في هـذا الـمـقـال مـبـاشـرة مـن الـنّـص الإنـكـلـيـزي. وسـيـبـدأ كـلّ اسـتـشـهـاد مـأخـوذ مـن الـرّوايـة بـمـعـقـوفـتـيـن (“) وسـيـنـتـهي بـمـعـقـوفـتـيـن (“).

they 6

تـبـدأ الـرّوايـة بـخـروج الـكـابـتـن كـروسـبي Captain Crospieمـن أحـد الـمـصـارف : “والـشّـارع الّـذي كـان فـيـه الـكـابـتـن كـروسـبي يـدعى بـشـارع الـبـنـك Bank Street  لأنّ أغـلـب بـنـوك الـمـديـنـة تـقـع فـيـه. وكـان في داخـل الـبـنـك شـئ مـن الـبـرودة والـعـتـمـة، أو بـالأحـرى شئ مـن الـعـفـونـة. وكـانـت ضـربـات عـدد كـبـيـر مـن الآلات الـكـاتـبـة تـتـعـالى في خـلـفـيـتـه. أمّـا في خـارجـه، فـقـد كـانـت الـشّـمـس حـارّة. وكـان الـغـبـار الـمـتـطـايـر يـمـلأ شـارع الـبـنـك، وكـانـت الـضّـوضـاء فـيـه شـديـدة مـتـنـوعـة الـمـصـادر: أصـوات الـمـنـبـهـات الـمـلـحّـة، وصـيـاح بـاعـة الـسّـلـع الـمـخـتـلــفـة. وكـان هـنـاك مـشـاجـرات حـامـيـة بـيـن أعـداد مـن الـنّـاس يـبـدو عـلـيـهـم أن بـعـضـهـم عـلى وشـك قـتـل الـبـعـض الآخـر ولـكـنـهـم كـانـوا في الـحـقـيـقـة أصـدقـاء أحـبّـاء، وأعـداد مـن الـرّجـال والـصّـبـيـان والأطـفـال يـبـيـعـون كـلّ أنـواع الـنـبـاتـات والـحـلـويـات والـبـرتـقـال والـمـوز والـمِـنـشـفـات والأمـشـاط وأمـواس الـحـلاقـة وسـلـع أخـرى يـدورون بـهـا في الـشـوارع عـلى صـواني. وكـان هـنـاك أيـضـاً أصـوات تـنـحـنـح الـنّـاس الـمـسـتـمـر وبـصـاقـهـم، ويـعـلـو فـوق ذلـك كـلّـه عـويـل سـوّاق الـحـمـيـر والـخـيـل الـمـقـهـور الـمـرتـفـع الـنّـبـرات في وسـط هـديـر الـسّـيّـارات وصـيـاح الـمـشـاة : “بـالـك! بـالـك ! Balek ! Balek ! “. كـانـت الـسّـاعـة الـحـاديـة عـشـرة صـبـاحـاً في مـديـنـة بـغـداد. أوقـف الـكـابـتـن كـروسـبي صـبـيـاً كـان يـركـض بـسـرعـة وعـلى ذراعـه حـمـولـة جـرائـد واشـتـرى واحـدة مـنـهـا. وبـعـد أن خـرج مـن شـارع الـبـنـك دخـل في شـارع الـرّشـيـد، وهـو شـارع بـغـداد الـرّئـيـسي، يـخـتـرقـهـا عـلى مـدى أربـعـة مـايـلات (سـتّ كـيـلـومـتـرات ونـصـف تـقـريـبـاً) مـحـاذيـاً نـهـر دجـلـة. وألـقى الـكـابـتـن كـروسـبي نـظـرات سـريـعـة عـلى عـنـاويـن أخـبـار الـجـريـدة، ووضـعـهـا تـحـت إبـطـه. وبـعـد أن سـار حـوالي مـائـتي يـاردة (183 مـتـراً تـقـريـبـاً) إسـتـدار لـيـدخـل في درب ضـيّـق يـفـضي إلى خـان أو حـوش كـان في جـانـبـه الـمـقـابـل بـاب عـلـيـه لافـتـة نـحـاسـيـة دفـعـه فـانـفـتـح داخـلاً في مـكـتـب. ونـهـض مـوظـف شـاب عـراقي طـويـل نـظـيـف ومـهـنـدم مـن وراء آلـتـه الـكـاتـبـة واتـجـه نـحـوه مـبـتـسـمـاً مـرحّـبـاً “.

ويـدخـل الـكـابـتـن كـروسـبي في مـكـتـب مـسـتـر داكـيـن. ونـعـرف أنّ الـكـابـتـن كـروسـبي وصـل إلى بـغـداد عـائـداً مـن كـركـوك، وأنّ هـمّـه وهـمّ الـمـسـتـر داكـيـن كـان مـراقـبـة اجـتـمـاع سـرّي سـيـعـقـد في بـغـداد. وتـسـاءل الـكـابـتـن كـروسـبي هـل يـنـوي الـدّكـتـاتـور الـكـبـيـر (ويـعـني بـه رئـيـس قـوّة أوربـيـة عـظـيـمـة) أن يـأتي إلى بـغـداد. ونـعـرف أنّ كـارمـايـكـل Carmichael وجـد مـعـلـومـات بـعـثـهـا عـن طـريـق صـلاح حـسـن Salah Hassan بـشـفـرة سـرّيـة.

وبـعـد أن تـركـه الـكـابـتـن كـروسـبي هـمـس مـسـتـر داكـيـن لـنـفـسـه : “جـاءوا إلى بـغـداد They Came to Baghdad “. وعـلى ورقـة رسـم دائـرة كـتـب تـحـتـهـا “بـغـداد” وحـولـهـا خـطـط صـور جـمـل وطـائـرة وبـاخـرة وقـطـار صـغـيـر يـنـفـث دخـانـاً تـتـجـه كـلّـهـا نـحـو الـدّائـرة. وفي زاويـة رسـم شـبـكـة عـنـكـبـوت وكـتـب في وسـطـهـا آنـا شـيـل Anna Scheel ، ووضـع تـحـتـهـا عـلامـة اسـتـفـهـام كـبـيـرة.

they 5

ونـجـد الـشّـقـراء آنـا شـيـل في الـفـصـل الـتّـالي تـعـمـل في فـرع نـيـويـورك لـوكـالـة بـنـكـيـة عـالـمـيـة، وتـطـلـب إجـازة لـتـذهـب إلى لـنـدن.

وتـدخـل في الـرّوايـة شـخـصـيـة أخـرى: فـيـكـتـوريـا جـونـزVictoria Jones ، شـابـة لـنـدنـيـة فـقـدت عـمـلـهـا والـتـقـت في حـديـقـة عـامـة بـشـاب اسـمـه إدوارد أخـبـرهـا إنّـه ذاهـب إلى بـغـداد لـيـعـمـل في مـكـتـبـة. وتـقـرر فـيـكـتـوريـا أن تـتـبـعـه لأنّـهـا وقـعـت في حـبّـه. وتـجـد عـن طـريـق وكـالـة عـمـل امـرأة كـانـت تـريـد أن تـسـافـر إلى بـغـداد ولـكـنّـهـا كـسـرت ذراعـهـا وتـحـتـاج إلى مـن يـصـاحـبـهـا لـمـسـاعـدتـهـا.

ونـجـد في الـفـصـل الـخـامـس : “الـقـارب الّـذي كـان قـد تـرك الأهـوار قـبـل يـومـيـن” يـشـقّ طـريـقـه بـهـدوء في مـيـاه شـطّ الـعـرب : “كـان الـتّـيـار قـويّـاً، ولـم يـكـن الـرّجـل الـعـجـوز يـحـتـاج إلى جـهـد كـبـيـر لـيـقـوده. كـانـت حـركـاتـه رصـيـنـة يـبـدو مـغـمـض الـعـيـنـيـن وهـو يـغـنّي بـعـذوبـة تـحـت أنـفـاسـه غـنـاءً عـربـيـاً حـزيـنـاً يـردده بـاسـتـمـرار:

أسـري بـالـلـيـل يـا يـمـلي (جـمـلي)                      Asri bi lel ya yamali

حـظي عـلـيـك يـا ابـن عـلي                             Hadhi alek ya Ibn Ali

وهـكـذا وصـل عـبـدُل سـلـيـمـان Abdul Suleiman (1)، رجـل مـن عـرب الأهـوار إلى الـبـصـرة. وكـان مـعـه رجـل آخـر في الـقـارب، في مـلابـسـه الّـتي يـرتـديـهـا خـلـيـط مـن الـغـرب والـشّـرق، فـعـلى دشـداشـة مـقـلّـمـة كـان يـرتـدي ثـوبـاً مـهـتـرئ الـقـمـاش خـاكي الـلـون، ومـعـطـف قـديـم ربـط حـول يـاقـتـه لـفـافـاً أحـمـر بـهـت لـونـه. وعـلى رأسـه يـشـمـاغ أبـيـض وأسـود وعـقـال. وشـرع هـو الآخـر يـدنـدن نـفـس الـنّـغـمـات. كـان يـبـدو شـبـيـهـاً بـآلاف الأشـخـاص في بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن، ولـم يـكـن هـنـاك مـا يـدلّ عـلى أنّـه إنـكـلـيـزي يـحـمـل في طـيّـات قـلـبـه سـرّاً يـمـكـن أن يـغـيـر وجـه الـعـالـم”.

ونـعـرف أنّـه كـان قـد اجـتـاز بـلاداً كـثـيـرة ونـجـا مـن مـطـاردات كـثـيـريـن كـانـوا يـريـدون قـتـلـه : “هـنـري كـارمـايـكـل. عـمـيـل سـرّي بـريـطـاني في حـوالي الـثّـلاثـيـن مـن عـمـره. بـنّي الـشّـعـر غـامـق الـعـيـنـيـن. يـتـكـلّـم الـلـغـات الـعـربـيـة والـكـرديـة والـفـارسـيـة والأرمـنـيـة والـهـنـدوسـتـانـيـة والـتّـركـيـة ولـهـجـات جـبـلـيـة عـديـدة”.

“ويـتـمـتـم الـعـجـوز الـعـربي مـن غـيـر أن يـديـر رأسـه : الـوقـت يـقـتـرب يـا ابـني، بـارك الله فـيـك May Allah prosper you .

ــ : عـد إلى الأهـوار يـا أبي، لا أريـد أن يـصـيـبـك أذى.

ــ : هـذا أمـر الله، كـلّ شئ بـيـديـه That is as Allah decrees. It is in his hand.

ــ : إن شـاء الله In shâ Allâh. وقـد ودّ في تـلـك الـلـحـظـة لـو كـان دم شـرقي يـسـيـل في عـروقـه بـدلاً مـن الـدّم الـغـربي، لـكي لا يـهـتـم بـاحـتـمـالات الـنّـجـاح أو الـفـشـل، وأن لا يـحـسـب ويـعـيـد حـسـاب دورالـحـظ والـمـصّـدفـات، ولـكي يـتـوقـف عـن الـتّـفـكـيـر في هـل أحـكـم خـطـتـه وفي نـتـائـجـهـا، ولـكي يـلـقي بـالـمـسـؤولـيـة عـلى الـرّحـمـن All Merciful الـحـكـيـم All Wise. إن شـاء الله In shâ Allâh، سـأنـجـح في خـطـتي”. “ودخـل الـقـارب بـهـدوء في الـمـمـر الـمـائي الّـذي تـعـمـق في ضـفـة الـنّـهـر، وكـانـت مـربـوطـة فـيـه كـلّ أنـواع الـمـراكـب، ومـراكـب أخـرى كـانـت تـسـبـقـهـمـا أو تـتـبـعـهـمـا. وكـان الـمـشـهـد رائـعـاً كـمـا لـو كـان في مـديـنـة الـبـنـدقـيـة تـقـريـبـاً It was lovely, almost venetian scene”.

“ورفـع كـارمـايـكـل أسـفـل دشـداشـتـه الـمـقـلّـمـة بـيـده وصـعـد الـدّرجـات الـحـجـريـة الـمـنـزلـقـة نـحـو الـرّصـيـف. ووجـد حـولـه الـمـشـاهـد الـمـألـوفـة. الأولاد الـصّـغـار وبـاعـة الـبـرتـقـال تـربّـعـوا بـجـانـب صـواني سـلـعـهـم، وقـطـع لـزجـة مـن كـعـك وحـلـويـات، وصـواني مـن قـيـاطـيـن الأحـذيـة وأمـشـاط رخـيـصـة وقـطـع مـن الـمـطـاط. ومـارة يـبـصـقـون بـضـوضـاء مـن حـيـن إلى حـيـن يـتـمـشـون وحـبّـات مـسـابـحـهـم تـتـسـاقـط مـتـضـاربـة بـيـن أيـديـهـم. وفي الـرّصـيـف الـمـقـابـل الّـذي تـنـفـتـح عـلـيـه واجـهـات الـمـخـازن والـبـنـوك، نـرى أفـنـديـة effendis شـبـاب مـسـرعـيـن نـحـو أشـغـالـهـم، يـرتـدون مـلابـس أوربـيـة خـفـيـفـة أرجـوانـيـة الألـوان. وكـان هـنـاك أوربـيـون أيـضـاً، إنـكـلـيـز وأجـانـب”.

“وهـكـذا وصـل هـذا الأجـنـبي إلى وسـط الـمـديـنـة وبـلـغ الـجـسـر فـوق الـقـنـاة، وعـبـره مـسـتـديـراً ودخـل الـسّـوق. وكـانـت الـضّـجـة والـضّـوضـاء في كـلّ مـكـان، يـمـشي فـيـهـا رجـال عـشـائـر بـعـنـفـوان يـدفـعـون كـلّ مـن في طـريـقـهـم، وتـخـتـرقـهـا حـمـيـر مـحـمّـلـة يـصـيـح سـوّاقـهـا بـخـشـونـة : ” بـالـك! بـالـك ! Balek ! Balek ! “. وأطـفـال يـتـعـاركـون ويـولـولـون ثـمّ يـتـراكـضـون عـنـدمـا يـمـرّ أوربـيـون ويـصـيـحـون بـأمـل : بـقـشـيـش مـدام. بـقـشـيـش .مـسـكـيـن ــ مـسـكـيـن Baksheesh, madame. Baksheesh. Meskin-meskin…. وهـنـا تـبـاع مـنـتـوجـات الـغـرب والـشّـرق مـعـاً، جـنـبـاً إلى جـنـب. قـدور مـن الألـمـنـيـوم، وأكـواب ومـواعـيـنـهـا وأبـاريـق شـاي، ومـصـنـوعـات الـصـفـافـيـر، وفـضّـيـات مـن مـديـنـة الـعـمـارة، وسـاعـات رخـيـصـة، وأكـواز مـطـلـيـة بـالـمـيـنـا، ومـطـرّزات وسـجـاد فـارسي زاهي الـتّـصـامـيـم، ومـعـاطـف مـسـتـعـمـلـة وبـنـاطـيـل وكـنـزات أطـفـال صـوفـيـة وألـحـفـة مـبـطـنـة مـصـنـوعـة مـحـلّـيـاً وزجـاج مـصـابـيـح مـرسـوم بـالألـوان وأكـوام مـن الـجـرار والـصـحـون الـفـخـاريـة. كـلّ بـضـائـع الـحـضـارة الـحـديـثـة الـرّخـيـصـة إلى جـانـب الـمـنـتـوجـات الـمـحـلّـيـة”.

وسـار كـارمـايـكـل في مـسـالـك مـعـتـمـة إلى أن وصـل إلى حـوش خـان حـولـه عـدّة دكـاكـيـن: “ذهـب كـارمـايـكـل إلى واحـد مـنـهـا عـلّـقـت أمـامـه فـروات ferwahs ـ مـعـاطـف مـن جـلـود الـغـنـم تـأتي مـن الـشّـمـال. وقـف يـقـلـبّـهـا بـاهـتـمـام. وكـان صـاحـب الـدّكـان يـقـدّم قـهـوة لـزبـون. وكـان الـزّبـون رجـلاً طـويـل الـقـامـة مـلـتـحِ مـهـيـب الـمـظـهـر، يـلـبـس لـفّـة خـضـراء حـول فـيـنـتـه، مـمـا يـدل عـلى أنّـه حـاج Hajji ذهـب إلى مـكّـة. وظـلّ كـارمـايـكـل واقـفـاً يـتـلـمـس الـفـروة وسـأل ــ: بـيـش هـذا؟ Besh hadha ?.

ــ : بـسـبـعـة دنـانـيـر.

ــ : غـالي.

وقـال الـحـاج The Hajji : إبـعـث الـسـجـاجـيـد إلى خـاني.

ــ : أكـيـد. تـمـشي غـداً ؟

ــ : في الـفـجـر، إلى كـربـلاء.

وقـال كـارمـايـكـل ــ : كـربـلاء، هـذه مـديـنـتي. صـار لي خـمـس عـشـرة سـنـة مـنـذ أن زرت قـبـر الـحـسـيـن. وأجـاب الـحـاج The Hajji : هـذه مـديـنـة مـقـدّسـة.

وأدار صـاحـب الـدّكـان رأسـه وقـال لـكـارمـايـكـل : هـنـاك فـروات أرخـص في الـدّاخـل.

ــ : أحـتـاج إلى فـروة بـيـضـاء مـن الـشّـمـال.

ــ : عـنـدي مـنـهـا في الـحـجـرة الـخـلـفـيـة “.

وكـانـت كـلـمـتـا “فـروة” و “كـربـلاء” كـلـمـتي الـسّـر، ولـكـنّ كـارمـايـكـل وجـد شـخـصـاً لـم يـتـوقـعـه في الـدّاخـل، واسـتـطـاع الـنّـجـاة مـن مـحـاولـة لـقـتـلـه. وأدرك في هـربـه أنّ الـسّـر كـان قـد تـسـرّب. ولـم يـبـق لـه، وهـو الّـذي كـان يـريـد تـحـاشي ذلـك، إلّا أن يـذهـب إلى الـقـنـصـلـيـة الـبـريـطـانـيـة في الـبـصـرة.

ونـجـد في الـفـصـل الـسّـادس ريـشـارد بـيـكـر الّـذي وصـل بـالـبـاخـرة إلى الـبـصـرة في طـريـقـه إلى تـلّ أسـود، مـوقـع مـديـنـة مـوريـك الـقـديـمـة. ورغـم أنّ هـنـاك “تـل أسـود” حـقـيـقي في سـوريـا ولـكـنّـه لـم يـنـقـب إلّا في 1967. أمّـا مـوريـك فهي مـديـنـة خـيـالـيـة تـمـامـاً.

وقـد جـاء بـيـكـر إلى الـقـنـصـلـيـة لـيـقـابـل الـقـنـصـل، وجـلـس بـجـانـب كـارمـايـكـل ولـكـنّـه لـم يـتـعـرف عـلـيـه في مـلابـسـه الّـتي سـبـق أن وصـفـنـاهـا رغـم أنّـهـمـا كـانـا في نـفـس الـمـدرسـة في صـغـرهـمـا. وضـرب كـارمـايـكـل حـبّـات مـسـبـحـتـه بـاعـثـاً لـه رسـالـة بـشـفـرة الـمـورس. وكـان في قـاعـة الإنـتـظـار إنـكـلـيـزي آخـر حـاول أن يـطـلـق الـنّـار عـلى كـارمـايـكـل ولـكـن ريـشـارد بـيـكـر ضـرب بـيـده عـلى مـسـدسـه وأسـقـطـه. واسـتـطـاع كـارمـايـكـل أن يـضـع ورقـة في جـيـب بـيـكـر قـبـل أن يـهـرب.

وتـصـل الـشّـابـة الإنـكـلـيـزيـة فـيـكـتـوريـا جـونـز بـالـطـائـرة إلى طـرابـلـس [الـغـرب] في الـفـصـل الـسّـابـع. وتـغـدق الـمـرأة الّـتي كـسـرت ذراعـهـا والّـتي تـصـاحـبـهـا فـيـكـتـوريـا عـلـيـهـا بـنـصـائـحـهـا. وتـنـهـيـهـا بـهـذه الـجـمـل : “وفي الـحـقـيـقـة لـيـس هـنـاك شئ نـظـيـف إن كـنـت تـدركـيـن مـا أقـول. وأنـا أنـتـبـه دائـمـاً إلى مـا أأكـل، فـالـقـذارة في الأسـواق والـشّـوارع شئ لا يـمـكـن أن تـصـدقـيـه. وهـذه الـخـرق الـبـالـيـة الـوسـخـة الّـتي يـرتـديـهـا الـنّـاس. وبـعـض دورات الـمـيـاه. هي لا تـسـتـحـق أن تـدعى بـهـذا الإسـم !”. وتـسـتـمـر الـسّـفـرة مـن طـرابـلـس إلى الـقـاهـرة فـبـغـداد.

وعـنـدمـا وصـلـت فـيـكـتـوريـا إلى بـغـداد : “كـان انـطـبـاعـهـا وهي تـتـنـفـس الـعـجـاج الأصـفـر الـحـار الـخـانـق سـيـئـاً. ومـن الـمـطـار إلى فـنـدق تـيـو، هـاجـمـت أذنـيـهـا ضـوضـاء مـسـتـمـرّة لا تـتـوقّـف. مـنـبـهـات سـيّـارات مـسـتـمـرة بـتـتـابـع جـنـوني، وأصـوات تـتـصـايـح، وصـفّـارات حـادّة، ثـمّ ارتـفـاع مـنـبـهـات سـيّـارات تـصـمّ الآذان ولا داعي لـهـا”. وبـعـد أن وصـلـت إلى الـفـنـدق (الّـذي يـطـلّ عـلى دجـلـة) وقـد أصـابـهـا الـصـدّاع ورأسـهـا يـدور، ذهـبـت إلى الـفـراش : “جـلـسـت فـيـكـتـوريـا عـلى حـافـة الـسّـريـر ومـسـحـت بـيـدهـا عـلى شـعـرهـا. وشـعـرت بـه مـلـبّـداً بـالـتّـراب وشـعـرت بـبـشـرة وجـهـهـا مـحـرقـة تـؤلـمـهـا. ونـظـرت إلى نـفـسـهـا في الـمـرآة. غـيّـر الـعـجـاج لـون شـعـرهـا الـغـامـق إلى لـون بـنّي مـحـمـرّ غـريـب. وسـحـبـت طـرفـاً مـن الـسّـتـارة ونـظـرت مـن خـلال الـشّـرفـة الـفـارغـة إلى الـنّـهـر. ولـم تـر مـن دجـلـة إلّا ضـبـابـاً أصـفـر كـثـيـفـاً. وقـالـت لـنـفـسـهـا وهي عـلى حـافّـة انـهـيـار عـصـبي عـمـيـق : مـا أبـغـض هـذا الـمـكـان”.

ولـكـنّـهـا “بـعـد أن اغـتـسـلـت وتـغـدّت ونـامـت الـقـيـلـولـة مـدّة طـويـلـة، خـرجـت فـيـكـتـوريـا مـن غـرفـتـهـا إلى الـشّـرفـة ونـظـرت إلى دجـلـة. كـانـت عـاصـفـة الـعـجـاج قـد هـدأت. وبـدلاً مـن الـضّـبـاب الأصـفـر رأت نـوراً بـاهـتـاً ومـيّـزت عـلى الـضّـفـة الـمـقـابـلـة أشـكـالاً رقـيـقـة لـنـخـيـل ودور شـيّـدت هـنـا وهـنـاك”.

ثـمّ عـرفـت فـيـكـتـوريـا أنّ الـشّـاب إدوارد الّـذي كـانـت قـد أغـرمـت بـه وجـاءت مـن أجـلـه إلى بـغـداد، يـعـمـل في جـمـعـيـة “غـصـن الـزّيـتـون”. وسـألـت فـيـكـتـوريـا تـيـو، صـاحـب الـفـنـدق عـن عـنـوان الـجـمـعـيـة، ولأنّـهـا لا تـعـرف بـغـداد فـقـد اقـتـرح عـلـيـهـا أن تـركـب سـيّـارة إجـرة. وعـنـدمـا سـألـتـه إن كـان الـسّـائـق يـعـرف الـمـكـان أجـابـهـا : “كـلّا، هـم لا يـعـرفـون مـوقـع أي مـكـان ! يـنـبـغي أن تـقـولي لـلـسّـائـق : يـمـيـن، يـسـار، تـوقـف، أكـمـل طـريـقـك ــ تـدّلـيـنـه عـلى الـمـكـان. وقـالـت فـيـكـتـوريـا : الأفـضـل إذن أن أسـيـر”.

“ووصـلـت إلى شـارع الـرّشـيـد واسـتـدارت يـمـيـنـاً. وكـانـت بـغـداد عـلى عـكـس مـا كـانـت تـتـصـوره عـنـهـا تـمـامـاً. شـارع رئـيـسي مـزدحـم مـكـتـظ بـالـنّـاس، وسـيـارات تـقـرع مـنـبـهـاتـهـا بـعـنـف، ونـاس يـتـصـايـحـون، وبـضـائـع أوربـيـة في واجـهـات الـمـحـلّات، وبـصـاق في كـلّ مـكـان حـولـهـا بـعـد نـحـنـات مـلـحّـة وعـالـيـة. ولـم تـجـد شـخـصـيـات شـرقـيـة غـريـبـة وغـامـضـة، فـأغـلـبـيـة الـنّـاس يـرتـدون مـلابـس غـربـيـة رخـيـصـة ومـهـتـرئـة، سـتـرات جـيـش وقـوّات جـوّيـة قـديـمـة. وتـبـدو الأشـكـال الـمـتـفـوّطـة والـمـرتـديـة عـبـاءات سـوداء الّـتي نـلـمـحـهـا هـنـا وهـنـاك ضـائـعـة في وسـط هـذا الـخـلـيـط مـن الـمـلابـس الأوربـيـة. وجـاءت نـحـوهـا مـتـسـولات يـولـولـن ويـبـكـيـن ــ نـسـاء يـحـمـلـن أطـفـالاً وسـخـيـن بـيـن أذرعـهـنّ. ولـم يـكـن الـرّصـيـف تـحـت قـدمـيـهـا مـسـطّـح الـمـسـتـوى وكـان فـيـه بـيـن الـحـيـن والـحـيـن حـفـر مـفـتـوحـة. وأكـمـلـت طـريـقـهـا وقـد اجـتـاحـهـا فـجـأة شـعـور بـالـغـربـة والـضّـيـاع بـعـيـداً عـن بـلـدهـا. هـنـا لا يـحـس الـمـسـافـر بـسـحـر الـسّـفـر، ولـكـنّـه يـحـسّ فـقـط بـالـفـوضى. ثـمّ وصـلـت إلى جـسـر فـيـصـل وتـجـاوزتـه مـسـتـمـرة في سـيـرهـا. وقـد أثـار الـخـلـيـط الـغـريـب مـمـا تـعـرضـه واجـهـات الـمـحـلّات فـضـولـهـا رغـمـاً عـنـهـا : أحـذيـة أطـفـال وألـبـسـة صـوفـيـة ومـعـجـون أسـنـان ومـسـتـحـضـرات تـجـمـيـل ومـصـابـيـح كـهـربـائـيـة وأكـواب فـرفـوري وصـحـون، وضـعـت جـنـبـاً لـجـنـب. وشـيـئـاً فـشـيـئـاً دخـلـت في دائـرة سـحـرهـا، سـحـر هـذه الـبـضـائـع الـمـتـنـوعـة الّـتي جـاءت مـن كـلّ أنـحـاء الـعـالـم لـتـشـبـع رغـبـات هـذا الـخـلـيـط الـغـريـب مـن الـنّـاس ولـتـسـد حـاجـاتـهـم”.

ولـم تـجـد أحـداً يـسـتـطـيـع أن يـدلّـهـا عـلى طـريـقـهـا، لا أصـحـاب الـمـحـلّات ولا الـشّـرطـة الّـذيـن رأتـهـم : “يـحـركـون أذرعـهـم بـعـنـفـوان ويـطـلـقـون صـفـاراتـهـم”، ولا صـاحـب الـمـكـتـبـة الّـتي “عـرضـت في واجـهـتـهـا بـعـض الـكـتـب الإنـكـلـيـزيـة”. ثـمّ أكـمـلـت طـريـقـهـا وعـنـدهـا : “هـاجـمـت أذنـيـهـا أصـوات رهـيـبـة لـضـربـات مـطـارق عـنـيـفـة جـاءت مـن زقـاق مـعـتـم”. وتـذكـرت مـا أخـبـروهـا بـه مـن إنّ مـكـتـب “غـصـن الـزّيـتـون” كـان قـرب سـوق الـصّـفـافـيـر. “ودخـلـتـه فـيـكـتـوريـا. وسـحـرهـا سـوق الـصّـفـافـيـر، نـارالـلـحـام والـمـعـدن الـذّائـب وطـريـقـة صـنـع الأوعـيـة كـانـت اكـتـشـافـاً عـجـيـبـاً لـسـاكـنـة لـنـدن الـصّـغـيـرة هـذه الّـتي لـم تـرَ قـبـل ذلـك إلّا بـضـائـع مـكـتـمـلـة الـتّـصـنـيـع مـعـروضـة لـلـبـيـع. وتـجـولـت في الـسّـوق ثـمّ تـركـتـهـا لـتـمـرّ أمـام أغـطـيـة خـيـل مـخـطـطـة زاهـيـة الألـوان وألـحـفـة فـرش قـطـنـيـة مـبـطّـنـة. وتـبـدو الـمـنـتـوجـات الأوربـيـة هـنـا مـخـتـلـفـة الـمـظـهـر تـحـت هـذه الـسّـقـوف الـمـعـتـمـة الـمـنـعـشـة الـبـرودة، لـهـا مـيـزة الـسّـلـع الـقـادمـة مـن مـا وراء الـبـحـار وفـيـهـا شئ مـن الـغـرابـة والـنّـدرة. بـالات مـن الأقـمـشـة الـرّخـيـصـة الـزّاهـيـة الألـوان تـبـهـج الأعـيـن. وبـيـن الـحـيـن والـحـيـن نـسـمـع صـيـحـات : بـالـك! بـالـك ! Balek ! Balek ! لـتـمـرّ حـمـيـر أو بـغـال تـتـمـايـل عـلى ظـهـورهـا الأحـمـال. ويـتـسـارع نـحـوهـا أولاد صـغـار ربـطـت صـوانـيـهـم بـأشـرطـة تـدور حـول أعـنـاقـهـم :see, lady,elastic, good elastic, English elastic. Comb, English comb ? . وتُـرمى الـسّـلـع عـلـيـهـا، تـكـاد تـمـسّ أنـفـهـا بـصـيـحـات تـرجـوهـا أن تـشـتـريـهـا. وسـارت فـيـكـتـوريـا في حـلـم سـعـيـد. هـذه هي حـقّـاً رؤيـة الـدّنـيـا. وفي كـلّ مـنـعـطـف مـن مـمـرات هـذا الـعـالـم الـمـسـقّـف الـمـنـعـش الـبـرودة تـكـتـشـف أشـيـاء لـم تـتـوقّـعـهـا : زقـاق الـخـيّـاطـيـن وفي أيـديـهـم إبـر الـخـيـاطـة وخـلـفـهـم صـور لـخـيـاطـة رجـالـيـة أوربـيـة، ثـمّ صـفـوف مـن سـاعـات وحـلي رخـيـصـة. وأكـوام مـن الـقـطـيـفـة وأقـمـشـة مـطـرزة بـخـيـوط مـعـدنـيـة غـالـيـة، ثـمّ تـفـقـد حـظـهـا مـن هـذا وتـجـد نـفـسـهـا في مـمـرات مـلابـس أوربـيـة مـسـتـعـمـلـة مـبـتـذلـة ومـحـكـوكـة، سـتـر بـهـتـت ألـوانـهـا تـدعـو لـلـرّثـاء ومـعـاطـف طـويـلـة مـبـعـثـرة هـنـا وهـنـاك. وتـلـمـح بـيـن الـحـيـن والـحـيـن انـفـتـاحـاً عـلى حـوش تـرى فـوقـه جـزءاً مـن الـسّـمـاء. ثـمّ امـتـد أمـام عـيـنـيـهـا مـشـهـد بـائـعي سـراويـل رجـالـيـة جـلـسـوا مـتـربّـعـيـن بـهـيـبـة وسـط زوايـاهـم الـمـربّـعـة الـصـغـيـرة وعـلى رؤوسـهـم الـعـمـائـم. “بـالـك Balek ! ” وجـاء حـمـار ثـقـيـل الأحـمـال مـن خـلـفـهـا أجـبـرهـا عـلى أن تـلـتـجـأ إلى زقـاق ضـيّـق رأت في أعـلاه شـريـطـاً مـن الـسّـمـاء. وسـارت فـيـه لـتـجـد فـيـه مـا كـانـت تـبـحـث عـنـه”.

وعـنـدمـا سـألـت عـن إدوارد في مـكـتـب “غـصـن الـزّيـتـون” أخـبـروهـا أنّـه كـان في مـهـمـة في الـبـصـرة.

وتـتـكـلّـم الـكـاتـبـة عـن الـنّـادل يـسـوع Jesusالّـذي كـان يـعـمـل في فـنـدق تـيـو الّـذي أقـامـت فـيـه فـيـكـتـوريـا. ويـسـوع هـذا كـان شـخـصـيـة حـقـيـقـيـة الـتـقـت بـه أجـاثـا كـريـسـتي. وكـان مـسـيـحـيـاً كـلـدانـيـاً مـن شـمـال الـعـراق يـعـمـل في نـادلاً في فـنـدق. ويـذكـره أيـضـاً Archibald Bulloch Roosevelt, Jr. الّـذي كـان مـلـحـقـاً عـسـكـريـاً أمـريـكـيـاً في بـغـداد خـلال الـحـرب الـعـالـمـيـة الـثّـانـيـة في كـتـابـه : For Lust of Knowing: Memoirs of an Intelligence Officer .

وفي الـمـسـاء، بـيـنـمـا كـانـت فـيـكـتـوريـا تـتـهـيـأ لـلـنّـوم انـفـتـح بـاب غـرفـتـهـا عـلى مـصـراعـيـه وانـسـلّ إلـيـهـا رجـل أغـلـق بـعـده الـبـاب بـالـمـفـتـاح وطـلـب مـنـهـا أن تـخـفـيـه بـسـرعـة، فـأخـفـتـه تـحـت الـسّـريـر. ثـمّ سـمـعـت دقّـات عـلى الـبـاب فـقـد جـاء رجـال الـشّـرطـة. وعـنـدمـا ذهـبـت فـيـكـتـوريـا إلى الـبـاب لاحـظـت لـفـاف الـرّجـل الأحـمـر فـحـشـرتـه في جـرّار. وبـعـد أن أخـبـرتـهـم أنّـهـا لـم تـرَ أحـداً ذهـب رجـال الـشّـرطـة لـيـدقّـوا عـلى بـاب الـغـرفـة الـمـجـاورة. وعـنـدمـا ابـتـعـدوا أخـرجـت فـيـكـتـوريـا الـرّجـل الـمـخـتـبئ ولاحـظـت عـلـيـه بـقـعـة حـمـراء مـن الـدّمـاء. وقـبـل أن يـمـوت بـيـن يـديـهـا نـطـق بـثـلاث كـلـمـات : لـوسـيـفـر Lucifer ، الـبـصـرة Basrah ، واعـتـقـدت أنّ الأخـيـرة كـانـت لافـارج Lafarge.

ثـمّ ذهـبـت فـيـكـتـوريـا إلى الـبـصـرة بـحـثـاً عـن إدوارد، وكـان ذلـك في الـشّـتـاء، ولـبـسـت ثـوبـاً صـيـفـيـاً فـطـقـس الـبـصـرة يـذكّـرهـا بـشـهـر حـزيـران في لـنـدن. وبـعـد أن وجـدت إدوارد ذهـبـا يـتـجـولان في الـمـديـنـة : “تـتـوقـف كـلّ الأشـغـال في سـاعـات مـنـتـصـف الـنّـهـار. وخـرج إدوارد وفـيـكـتـوريـا بـعـد الـغـداء لـيـتـمـشـيـا في الـمـديـنـة ويـطّـلـعـا عـلى مـعـالـمـهـا. وقـد أعـجـبـت فـيـكـتـوريـا بـالـنّـهـر، شـطّ الـعـرب بـضـفـافـه الّـتي تـغـطـيـهـا غـابـات الـنّـخـيـل. وأحـبّـت مـراكـب الـعـرب الـسّـريـعـة الّـتي تـشـبـه قـوارب مـديـنـة الـبـنـدقـيـة (الـجـنـدولات) والّـتي ربـطـت عـلى جـانـبي الـقـنـاة في الـمـديـنـة. ثـمّ تـجـوّلا في الـسّـوق وتـأمّـلا صـنـاديـق الـعـرس الـمـصـنـوعـة في الـكـويـت والـمـدقـوقـة فـيـهـا مُـقـطّـعـات نـحـاسـيـة، وسـلـع أخـرى تـجـذب أعـيـن الـنّـاظـريـن”. وقـصّـت فـيـكـتـوريـا عـلى إدوارد مـا حـدث لـهـا في الـفـنـدق في بـغـداد ومـوت الـرّجـل الـغـريـب في غـرفـتـهـا. ونـعـرف أنّ آنـا شـيـل سـتـأتي إلى بـغـداد.

وبـعـد أن عـادا إلى بـغـداد ضـرب إدوارد مـوعـداً لـفـيـكـتـوريـا عـلى ضـفـة دجـلـة “أمـام بـيـت الـمـلـك عـلي Beit Melik Ali”. وبـعـد أن سـألـت عـن الـعـنـوان وجـدت داراً كـبـيـرة تـطـلّ عـلى ضـفـة الـنّـهـر الـغـربـيـة. ودهـشـت عـنـدمـا أوصـلـهـا درب ضـيّـق إلى ضـفـة الـنّـهـر : “إسـتـدارت إلى الـيـمـيـن وسـارت بـتـمـهـل بـمـحـاذاة الـسّـدّة الـعـالـيـة. كـانـت الـسّـدّة في بـعـض أجـزائـهـا قـد هـدّمـهـا الـمـاء، ولـم تـكـن في بـعـض الأحـيـان قـد رمـمـت أو أعـيـد بـنـاؤهـا. وكـان أمـام إحـدى الـدّور درجـات لـو سـلـكـهـا الـمـرء في لـيـل مـظـلـم لأودت بـه في الـمـاء. نـظـرت فـيـكـتـوريـا إلى الـمـاء تـحـتـهـا واسـتـمـرّت في سـيـرهـا، ثـمّ تـوسّـع الـدّرب وصـار مـبـلـطـاً بـالـحـجـارة. وكـان يـبـدو أنّ الـدّور الـمـمـتـدّة عـلى يـمـيـنـهـا تـخـفي أسـرارهـا بـغـيـرة، لا يـمـكـن ألـقـاء نـظـرات داخـلـهـا ولا عـلى سـاكـنـيـهـا. ولـكـنّـهـا وجـدت أحـيـانـاً بـابـاً مـفـتـوحـاً نـظـرت مـن خـلالـه فـسـحـرهـا الـتّـنـاقـض بـيـن الـخـارج والـدّاخـل. وتـسـلـلـت نـظـراتـهـا في حـوش دار تـتـوسـطـه نـافـورة تـنـفـث مـاءهـا وحـولـهـا مـقـاعـد وثـيـرة وكـراسي، ونـخـلات بـاسـقـة في حـديـقـة وراء الـحـوش تـبـدو مـثـل ديـكـورات مـن الـقـمـاش عـلى خـشـبـة مـسـرح. وعـنـدمـا تـسـلـلـت نـظـراتـهـا في داخـل دار أخـرى كـان لـهـا نـفـس مـظـهـر الأولى الـخـارجي لـمـحـت مـمـرات مـظـلـمـة وأكـوام نـفـايـات في وسـطـهـا خـمـسـة أطـفـال أو سـتّـة وسـخـيـن بـمـلابـس رثّـة يـلـعـبـون بـهـا. ثـمّ وصـلـت إلى غـابـة نـخـيـل كـثـيـفـة، ومـرّت بـدرجـات سـلّـم عـلى يـسـارهـا تـودي إلى الـنّـهـر، ورأت رجـلاً عـربـيـاً جـالـسـاً في بـلـم بـدائي لـه مـجـذافـان يـصـيـح نـحـوهـا ويـحـرك ذراعـيـه في الـهـواء. لا بـدّ أنّـه كـان يـسـألـهـا إن كـانـت تـريـد الـعـبـور إلى الـصّـوب الـمـقـابـل. وخـيّـل إلـيـهـا أنّـهـا كـانـت في مـقـابـل فـنـدقـهـا، وإن كـان صـعـبـاً الـتّـعـرف عـلى الأشـكـال الـمـعـمـاريـة لـلـبـنـايـات عـبـر الـنّـهـر، وبـنـايـات الـفـنـادق تـتـشـابـه فـيـمـا بـيـنـهـا. ثـمّ بـلـغـت طـريـقـاً تـؤدّي خـلال غـابـات الـنّـخـيـل إلى داريـن عـالـيـتـيـن عـلى واجـهـتـيـهـمـا شـرفـات. وكـان خـلـفـهـمـا دار ضـخـمـة شـيّـدت مـبـاشـرة عـلى ضـفـة الـنّـهـر حـولـهـا حـديـقـة وحـيـطـان. وكـان الـدّرب الـمـحـاذي لـلـنّـهـر يـمـرّ وسـط مـا لا بـدّ أنّـهـا دار الـمـلـك عـلي”. “وبـعـد أن مـرّت أمـام مـدخـلـهـا وصـلـت بـعـد دقـائـق إلى مـكـان بـالـغ الـوسـاخـة، وحـجـبـت الـنّـهـر نـخـيـل. وكـان الـمـكـان مـسـوّراً بـأسـلاك شـائـكـة صـدئـة. وكـان عـلى يـمـيـنـهـا دور خـربـة وسـط حـيـطـان مـن الـطّـيـن وصـرائـف حـولـهـا أطـفـال يـلـعـبـون في الـقـذارة وأسـراب ذبـاب تـتـطـايـر فـوق أكـوام الـزّبـالـة”.

ووجـدت فـيـكـتـوريـا إدوارد وبـجـانـبـه سـيّـارة، وأخـبـرهـا أنّـه سـيـقـودهـا إلى بـابـل.

” ـ : إلى بـابـل ، صـاحـت فـيـكـتـوريـا، مـا أحـلى سـمـاع هـذا، حـقّـاً إلى بـابـل؟ واسـتـدارت الـسّـيـارة نـحـو الـيـسـار ودخـلا في طـريـق واسـعـة الـعـرض جـيّـدة الـتّـبـلـيـط.

ــ : نـعـم، ولـكـنّ لا تـأمـلي الـكـثـيـر، فـبـابـل لـم تـعـد كـمـا كـانـت عـلـيـه، إن فـهـمـتِ مـا أقـصـد.

وهـمـهـمـت فـيـكـتـوريـا :

كـم مـن مـايـل لـنـصـل إلى بـابـل ؟

ثـلاث عـشـريـنـات وعـشـرة.

هـل سـأصـلـهـا عـلى ضـوء الـشّـمـعـة ؟

نـعـم، وتـعـوديـن عـلـيـه أيـضـاً.

وكـنـت أغـني هـذا عـنـدمـا كـنـت طـفـلـة. سـحـرتـني بـابـل دائـمـاً. وهـا نـحـن نـذهـب إلـيـهـا حـقّـاً”.

“ــ : تـبـدو هـذه الـسّـيـارة عـلى وشـك الـتّـسـاقـط .

ــ : وهي ربّـمـا سـتـتـسـاقـط. فـكـل شئ فـيـهـا مـهـتـرئ بـالـتّـأكـيـد. ولـكـنّ هـؤلاء الـعـراقـيـيـن لا مـثـيـل لـهـم عـنـدمـا يـربـطـون أجـزاءهـا بـسـلـك ويـنـطـقـون عـلـيـهـا : إن شـاء الله Inshallah، فـتـتـحـرّك وتـسـيـر.

ــ : يـقـولـون إن شـاء الله دائـمـاً، ألـيـس كـذلـك؟

ــ وهـل هـنـاك أحـسـن مـن أن نـتـخـلـص مـن الـمـسـؤولـيـة ونـلـقـيـهـاعـلى [الله] الـقـادرAlmighty “.

” وتـقـافـزت بـهـمـا الـسّـيـارة عـلى الـطـريـق الـمـلـيـئـة بـالـحـفـر وتـمـايـلـت تـضـرب هـنـا وهـنـاك أكـوام الـتّـراب. وكـان الـغـبـار يـرتـفـع كـغـيـوم حـولـهـمـا. وكـانـت شـاحـنـات مـلـيـئـة بـالـعـرب تـسـيـر وسـط الـطّـريـق، لا يـلـقي سـائـقـوهـا بـالاً لـقـرع الـمـنـبـهـات خـلـفـهـم. ومـرّا أمـام حـدائـق حـولـهـا حـيـطـان ومـجـمـوعـات مـن الـنّـسـاء والأطـفـال والـحـمـيـر. وكـان كـلّ هـذا جـديـداً عـلى فـيـكـتـوريـا و جـزءاً مـن الـسّـحـر الّـذي شـمـلـهـا وهي جـالـسـة بـجـانـب إدوارد في طـريـقـهـا إلى بـابـل. ووصـلا إلى بـابـل بـعـد سـاعـتـيـن وقـد اهـتـزّ جـسـمـاهـمـا وغـطـتـهـمـا الـكـدمـات. وخـاب أمـل فـيـكـتـوريـا أمـام الـخـرائـب : أكـوام مـن الـطّـيـن والـطّـابـوق الّـتي لـم تـدرك بـقـايـا مـاذا كـانـت، فـقـد كـانـت تـتـوقّـع رؤيـة أعـمـدة وأقـواس مـثـلـمـا رأتـه في الـصّـور عـن بـعـلـبـك. ولـكـنّ خـيـبـة أمـلـهـا خـفّـت قـلـيـلاً فـقـلـيـلاً وسـارا فـوق أكـوام مـن الـطّـابـوق يـتـبـعـان دلـيـلاً يـريـهـمـا الـمـكـان. واسـتـمـعـت بـنـصـف أذنـهـا إلى شـروحـه الـمـفـصّـلـة، ولـكـن عـنـدمـا مـرّا بـطـريـق الـمـسـيـرات مـتـجـهـيـن نـحـو بـوابـة عـشـتـار بـآثـار حـيـوانـاتـهـا الـخـرافـيـة، تـمـلـكـهـا فـجـأة شـعـور بـعـظـمـة الـمـاضي ورغـبـة في مـعـرفـة مـا كـانـت عـلـيـه هـذه الـمـديـنـة الـواسـعـة الـشّـمـوخ، والّـتي تـسـتـلـقي الآن أمـامـهـا مـهـمـلـة لا حـيـاة فـيـهـا. وبـعـد أن دفـعـت مـا كـان تـديـن بـه لـهـذه الآثـار، جـلـسـت بـجـانـب أسـد بـابـل مـع إدوارد يـأكـلان مـا كـان قـد جـلـبـه مـعـه. وتـركـهـمـا الـدّلـيـل مـبـتـسـمـاً وهـو يـحـثّـهـمـا عـلى زيـارة الـمـتـحـف بـعـد الأكـل.

ــ : وهـل يـنـبـغي ذلـك ؟ قـالـت فـيـكـتـوريـا مـبـتـسـمـة، قـطـع أثـريـة أمـامـهـا شـروح مـكـتـوبـة وضـعـت في دوالـيـب، ولا يـبـدو عـيـهـا أنّـهـا حـقـيـقـيـة. ذهـبـت إلى الـمـتـحـف الـبـريـطـاني مـرّة. وهـو مـريـع ويـوجـع الأقـدام.

ــ : الـمـاضي مـضـجـر دائـمـاً، قـال إدوارد، والـمـسـتـقـبـل أهـم مـنـه.

ــ : هـذا لـيـس مـضـجـراً، قـالـت فـيـكـتـوريـا وهـي تـحـرك يـدهـا الـمـمـسـكـة بـالـسّـانـدويـتـش نـحـو مـشـهـد جـدران الـطّـابـوق، هـنـاك شـعـور بـالـعـظـمـة …”.

ولأنّ شعـرهـا أصـبـح بـلـون الـصّـدأ مـن تـراكـم الـتّـراب عـلـيـه بـعـد عـودتـهـا مـن بـابـل فـقـد ذهـبـت فـيـكـتـوريـا إلى امـرأة أرمـنـيـة لـتـغـسـل لـهـا شـعـرهـا بـالـشّـامـبـو. وخـلال غـسـل شـعـرهـا شـمّـت رائـحـة ذكّـرتـهـا بـالـمـسـتـشـفى وغـابـت عـن وعـيـهـا. وعـنـدمـا اسـتـيـقـظـت : “كـانـت في غـرفـة صـغـيـرة ولـكـن عـالـيـة جـدّاً، صـبـغـت بـلـون رصـاصي فـاتـح مـزرقّ يـثـيـر الـكـآبـة. وكـانـت أرضـيـتـهـا مـن الـطّـيـن. ويـبـدو أنّ الأثـاث الـوحـيـد فـيـهـا كـان الـفـراش الّـذي اسـتـلـقـت عـلـيـه، وقـد رمـيـت فـوقـه سـجـادة وسـخـة وطـاولـة آيـلـة لـلـسـقـوط فـوقـهـا صـحـن واسـع تـسـاقـطـت مـنـه الـمـيـنـا الّـتي طـلي بـهـا ودلـو مـن الـزّنـك تـحـتـهـا. وكـان فـيـهـا نـافـذة ثـبّـت عـلـيـهـا مـن الـخـارج نـوع مـن الـمـشـبّـك الـخـشـبي. ونـهـضـت فـيـكـتـوريـا بـحـذر شـديـد مـن الـفـراش وشـعـرت بـالأرض تـدور حـولـهـا وبـصـداع في رأسـهـا واقـتـربـت مـن الـنّـافـذة. واخـتـرقـت نـظـراتـهـا الـمـشـبّـك الـخـشـبي بـلا عـائـق ورأت حـديـقـة خـلـفـهـا نـخـيـل. وكـانـت الـحـديـقـة مـلـيـحـة حـسـب الـمـعـايـيـر الـشّـرقـيـة، وإن كـانـت سـتـبـدو حـقـيـرة في نـظـر سـكـان ضـواحي الـمـدن الإنـكـلـيـزيـة. وكـان فـيـهـا كـثـيـر مـن الأزهـار الـبـرتـقـالـيـة الـلـمـعـان وأشـجـار أوكـالـبـتـوس يـغـطي أوراقـهـا الـغـبـار وبـعـض أشـجـار الـطّـرفـاء الـهـزيـلـة الأغـصـان.

وكـان طـفـل صـغـيـر عـلى وجـهـه أوشـام زرقـاء وعـلـيـه كـثـيـر مـن الأسـورة والـخـلاخـل يـتـقـافـز ويـتـمـايـل ضـاربـاَ كـرتـه ويـغـني بـأنـيـن أخـن عـالٍ ويـبـدو صـوتـه وكـأنّـه يـخـرج مـن “مـزمـار قـربـة” بـعـيـد”.

وبـعـد أن دارت في غـرفـتـهـا وفـكّـرت طـويـلاً : “سـمـعـت في الـخـارج أصـوات خـطـوات تـقـتـرب وصـريـر مـفـتـاح في قـفـل صـدئ، وتـرنـح الـبـاب عـلى مـصـراعـه مـنـفـتـحـاً ودخـل رجـل عـربي an Arab. كـان يـحـمـل صـيـنـيـة مـعـدنـيـة عـلـيـهـا صـحـون. وكـان يـبـدو مـرحـاً وابـتـسـم بـكـلّ فـمـه وبـزهـو وتـكـلّـم بـعـربـيـة لـم تـفـهـمـهـا ووضـع الـصّـيـنـيـة. وفـتـح فـمـه وأشـار إلـيـه وإلى بـلـعـومـه مـن الأعـلى إلى الأسـفـل وخـرج ثـمّ أقـفـل الـبـاب وراءه. واقـتـربـت فـيـكـتـوريـا مـن الـصّـيـنـيـة. وكـان عـلـيـهـا وعـاء فـيـه رز، وشئ يـبـدو مـثـل أوراق كـرنـب مـلـفـوفـة ورغـيـف خـبـز عـربي واسـع. وكـذلـك إنـاء مـاء وكـأس. وبـدأت فـيـكـتـوريـا بـشـرب كـأس مـاء مـلـيـئـة ثـمّ شـرعـت في تـذوّق الـرّز والـخـبـز وأوراق الـكـرنـب الّـتي حـشـيـت بـلـحـم مـثـروم لـه طـعـم لـم تـتـعـود عـلـيـه. وعـنـدمـا أنـهـت كـلّ مـا كـان في الـصّـيـنـيـة شـعـرت بـنـفـسـهـا في حـالـة أحـسـن”.

ونـلاحـظ أنّ الـكـاتـبـة في وصـفـهـا لـلـدّولـمـة اسـتـعـمـلـت كـلـمـة “ورق الـكـرنـب Cabbage leaves” وهي تـتـكـلّـم عـن الـسِّـلـق، مـع أن كـلـمـة سِـلـق مـوجـودة في الإنـكـلـيـزيـة : “Chard”.

“وعـاد سـجّـانـهـا في الـمـسـاء يـحـمـل صـيـنـيـة طـعـام أخـرى. وصـاحـبـتـه هـذه الـمـرّة امـرأتـان. وكـانـتـا مـتـلـفـعـتـيـن بـسـواد صـدئ، مـحـجـبـتي الـوجـه. ولـم تـدخـلا الـغـرفـة بـل بـقـيـتـا أمـام الـبـاب. وكـان بـيـن ذراعي إحـداهـمـا طـفـل. وكـانـتـا واقـفـتـيـن تـتـضـاحـكـان وإنّ أحـسّـت فـيـكـتـوريـا أنّ أعـيـنـهـمـا كـانـت تـتـفـحـصـهـا مـن خـلال بـرقـعـيـهـمـا الـخـفـيـفـيـن. وقـد كـان مـمـتـعـاً لـهـمـا وشـديـد الـفـكـاهـة أن تـسـجـن امـرأة أوربـيـة هـنـا. وحـاولـت فـيـكـتـوريـا أن تـكـلّـمـهـمـا بـالإنـكـلـيـزيـة وبـالـفـرنـسـيـة ولـكـنّـهـمـا اسـتـمـرتـا بـالـتّـضـاحـك. وفـكـرت بـغـرابـة أن لا تـسـتـطـيـع الـتّـفـاهـم مـع أشـخـاص مـن جـنـسـهـا (الأنـثـوي). ونـطـقـت بـبـطء وبـصـعـوبـة شـديـدة واحـدة مـن الـجـمـل الـقـلـيـلـة الّـتي حـفـظـتـهـا : الـحـمـد لله El hamdu lillah”.  وقـوبـلـت جـمـلـتـهـا بـسـيـل مـن الـكـلـمـات الـعـربـيـة وهـزّت الـمـرأتـان رأسـيـهـمـا بـحـيـويـة وعـنـفـوان. وتـقـدمـت فـيـكـتـوريـا نـحـوهـمـا ولـكـنّ الـخـادم الـعـربي(أو هـل كـان لـه مـهـمـة أخـرى؟) رجـع إلى الـخـلـف وأوقـفـهـا. وأشـار لـلـمـرأتـيـن أن تـخـرجـا وتـبـعـهـمـا خـارجـاً هـو الآخـر وأغـلـق الـبـاب وقـفـلـه بـالـمـفـتـاح. وكـان قـد نـطـق قـبـل أن يـخـرج بـكـلـمـة كـررهـا عـدّة مـرّات : بـكـرة … بـكـرة Bukra-Bukra . كـانـت فـيـكـتـوريـا قـد سـمـعـت الـكـلـمـة مـن قـبـل، وهي تـعـني غـداً “.

وجـلـسـت فـيـكـتـوريـا لـتـفـكّـر في وسـيـلـة تـهـرب بـهـا مـن سـجـنـهـا. وبـيـنـمـا كـانـت تـمـتـحـن كـلّ الـسّـبـل الـمـمـكـنـة تـذكّـرت الـصّـيـنـيـة فـأكـلـت كـلّ مـا عـلـيـهـا وشـربـت مـاء ومـلأت كـأسـاً وضـعـتـهـا عـلى الـطّـاولـة الـصّـغـيـرة الـقـلـيـلـة الـثّـبـات. ومـسّـت الـطّـاولـة فـاهـتـزّت وانـسـكـب الـمـاء وتـحـولـت الأرضـيـة الـطّـيـنـيـة الّـتي سـقـط عـلـيـهـا الـمـاء إلى بـقـعـة وحـل… ووجـدت فـيـكـتـوريـا سـبـيـل الـهـروب !

نـظـرت مـن ثـقـب الـمـفـتـاح فـوجـدتـه مـسـدوداً، أي أنّ الـمـفـتـاح بـقي فـيـه. وخـلـعـت حـذاءهـا وأخـرجـت غـطـاءه الـجـلـدي مـن داخـلـه ولـفّـتـه حـتّى صـار اسـطـوانـيـاً. ثـمّ سـكـبـت الـمـاء تـحـت الـبـاب وأزاحـت الـطـيـن لـتـحـفـر بـالـمـلـعـقـة ثـغـرة تـدخـل فـيـهـا يـدهـا. وأدخـلـت لـفّـة الـجـلـد في فـتـحـة الـقـفـل ودفـعـتـهـا فـسـقـط الـمـفـتـاح، ومـدّت يـدهـا مـن خـلال الـثّـغـرة الّـتي حـفـرتـهـا في أرضـيـة الـطّـيـن ووصـلـت أصـابـعـهـا إلى الـمـفـتـاح الـسّـاقـط في الـخـارج وقـبـضـت عـلـيـه وجـرّتـه نـحـوهـا إلى الـدّاخـل !

وعـنـدمـا خـرجـت مـن الـغـرفـة وجـدت : “قـطـعـة مـن قـمـاش أسـود مـمـزق لا شـكـل لـهـا مـكـومـة قـرب الـبـاب الـخـارجي. وفـكّـرت أنّـهـا كـانـت عـبـاءة (عـبـةAba ) سـتـنـفـعـهـا لـتـغـطّي بـهـا مـلابـسـهـا الأوربـيـة”. وعـادت إلى الـغـرفـة تـنـتـظـر أن يـحـلّ الـلـيـل. وعـنـدمـا حـلّ الـلـيـل، تـركـت غـرفـتـهـا والـدّار والـقـريـة : “وبـعـد ذلـك بـقـلـيـل وصـلـت إلى مـكـان فـسـيـح يـجـري فـيـه جـدول مـلئ بـالـوحـل عـلـيـه جـسـر مـحـدودب مـتـداعٍ يـوصـل إلى درب يـؤدي إلى فـلاة شـاسـعـة الأطـراف. واسـتـمـرت فـيـكـتـوريـا تـركـض حـتّى انـقـطـعـت أنـفـاسـهـا”. وكـانـت تـعـرف أنّ “امـرأة عـربـيـة فـاضـلـة تـلـبـس عـبـاءة مـهـمـا كـانـت مـلابـسـهـا مـهـتـرئـة وحـقـيـرة يـحـتـرمـهـا الـجـمـيـع، ولا يـمـكـن لـرجـل أن تـخـول لـه أخـلاقـه أن يـتـحـرش بـهـا ويـكـلّـمـهـا”. وسـارت طـويـلاً حـتّى لاقـت سـيّـارة : “يـسـوقـهـا عـربي وبـجـانـبـه رجـل بـمـلابـس أوربـيـة” وأوقـفـتـهـا فـيـكـتـوريـا وشـرحـت لـلإنـكـلـيـزي : “خـطـفـوني، قـالـت لـه مـقـطـوعـة الأنـفـاس، ذهـبـت لـيـغـسـلـوا لي شـعـري بـالـشّـامـبـو وخـدروني بـالـكـلـوروفـورم، وعـنـدمـا اسـتـيـقـظـت وجـدت نـفـسي في بـيـت عـربي في قـريـة هـنـاك، وأشـارت نـحـو الأفـق” . وسـألـهـا الإنـكـلـيـزي : “في مـنـدلي ؟” وطـبـعـاً لـم تـكـن فـيـكـتـوريـا تـعـرف أنّـهـا كـانـت في مـنـدلي. ولأنّـه لاحـظ أنّ شـفـتـيـهـا تـشـقـقـتـا مـن الـجـفـاف والـعـطـش فـقـد نـادى الـسّـائـق : “عـبـدُل.” وأجـاب الآخـر: “صـاحـب ؟” “وبـعـد أن أعـطـاه الأوامـر بـالـعـربـيـة ركـض [الـسّـائـق] نـحـو الـسّـيـارة ورجـع ومـعـه قـنـيـنـة تـرمـوس كـبـيـرة وكـوب مـن الـبـاكـلـيـت”. ونـعـرف أنّ الإنـكـلـيـزي كـان عـالـم الآثـار ريـشـارد بـيـكـر، ويـصـطـحـبـهـا مـعـه إلى مـوقـع الـتّـنـقـيـبـات الأثـريـة في “تـلّ أسـود” الّـذي كـان كـمـا شـرحـه لـهـا مـوقـعـاً عـاديـاً “أغـلـبـه مـن الـفـتـرة الآشـوريـة الـمـتـأخّـرة، وقـلـيـل مـن الـفـتـرة الـبـارثـيـة مـع بـعـض الأسـس مـن الـفـتـرة الـقـاسـيّـة”.

وفي الـطـريـق الـوعـرة رأيـا رجـلـيـن يـتـجـهـان نـحـو الـسّـيّـارة : “كـان أحـدهـمـا يـحـمـل عـلى ظـهـره نـوعـاً مـن الـمـصـطـبـة الـخـشـبـيـة، والآخـر شـيـئـاً مـن الـخـشـب بـحـجـم الـبـيـانـو الّـذي يـدعى بـالـبـيـانـو الـمـنـتـصـب. ونـاداهـمـا ريـشـارد فـسـلّـمـا عـلـيـه وعـلى وجـهـيـهـمـا كـلّ عـلامـات الـفـرح. وقـدّم لـهـمـا سـجـائـر وبـدا عـلـيـهـم أنّـهـم يـعـرفـونـه وهـو يـعـرفـهـم.

وكـان الـرّجـلان يـحـمـلان “صـنـدوق دنـيـا” ومـصـطـبـة خـشـبـيـة وقـدمـا عـرضـاً لـفـكـتـوريـا وريـشـارد (أنـظـر مـقـالي : “صـنـدوق الـدّنـيـا كـمـا وصـفـتـه أجـاثـا كـريـسـتي” في الأرشـيـفـات أبـريـل 2015). ثـمّ : “ودّع الـجـمـع بـعـضـهـم الـبـعـض بـتـعـابـيـر ودّيـة وتـمـنـيـات بـالـصّـحـة والـسّـلامـة والـدّعـاء لـهـم بـبـركـة الله وحـفـظـه. وتـفـرّق الـشّـمـل، فـتـوجـه ريـشـارد وفـيـكـتـوريـا نـحـو الـسّـيّـارة بـيـنـمـا أكـمـل الـرّجـلان طـريـقـهـمـا خـلال الـبـاديـة. وسـألـت فـيـكـتـوريـا : “إلى أيـن يـذهـبـان؟” وأجـاب ريـشـارد : “يـكـمـلان سـفـرهـمـا في أرجـاء الـبـلاد. إلـتـقـيـت بـهـم أوّل مـرّة في الأردن، وكـانـا مـتّـجـهـيـن مـن الـبـحـر الـمـيّـت إلى عـمّـان. وهـمـا يـذهـبـان الآن إلى كـربـلاء، يـسـلـكـون طـرقـاً لا يـرتـادهـا إلّا قـلّـة مـن الـنّـاس لـيـعـرضـا صـورهـمـا في الـقـرى الـمـنـعـزلـة”. وقـالـت فـيـكـتـوريـا: “ربّـمـا سـتـتـوقـف سـيّـارة في الـطّـريـق لـيـركـبـوا فـيـهـا”. وضـحـك ريـشـارد : “وربّـمـا لـن يـقـبـلـوا الـرّكـوب فـيـهـا. وقـد أوقـفـت سـيّـارتي مـرةً لأُركِـب رجـلاً عـجـوزاً كـان يـسـيـر مـن الـبـصـرة إلى بـغـداد. وسـألـتـه كـم كـان يـتـوقـع أن يـدوم سـيّـره حـتّى يـصـل، فـأجـابـني : حـوالي شـهـريـن. ورجـوتـه أن يـركـب ووعـدتـه أنّـه سـيـصـل إلى بـغـداد في الـمـسـاء، ولـكّـنـه شـكـرني رافـضـاً. شـهـران عـلى الـطّـريـق هـو كـلّ مـا كـان يـنـاسـب وقـع قـدمـيـه، والـزّمـن لا يـعـني شـيـئـاً هـنـا. وعـنـدمـا تـدخـل هـذه الـفـكـرة في ذهـن الإنـسـان يـجـد سـعـادة غـريـبـة في الـتّـمـتـع بـهـا”. قـالـت فـيـكـتـوريـا : “نـعـم، يـمـكـنـني أن أفـهـم هـذا”. وقـال ريـشـارد : “الـعـرب لا يـفـهـمـون قـلّـة صـبـر الـغـربـيـيـن واسـتـعـجـالـهـم لإنـهـاء مـا يـقـومـون بـه، ويـعـتـبـرون أنّ عـادتـنـا في الـوصـول حـالاً إلى مـا نـريـد أن نـقـول خـلال الـحـديـث مـعـهـم يـنـقـصـهـا الأدب. فـيـنـبـغي أن يـجـلـس الـمـرء ويـثـرثـر لـمـدة سـاعـة [قـبـل أن يـصـل إلى هـدفـه] أو حـتّى أن يـجـلـس ولا يـفـتـح فـمـه”. قـالـت فـيـكـتـوريـا : سـيـكـون هـذا غـريـبـاً لـو فـعـلـنـاه في مـكـتـب في لـنـدن. فـيـه مـضـيـعـة لـلـوقـت”. قـال ريـشـارد : “نـعـم، ولـكـنّ هـذا يـرجـعـنـا إلى الـتّـسـاؤل : مـاهـو الـوقـت؟ ومـاذا يـعـني تـضـيـيـعـه؟”.

وبـعـد ذلـك سـألـتـه فـيـكـتـوريـا عـن مـكـان الـتّـنـقـيـبـات : “تـلّ أسـود؟ في وسـط الـفـلاة. سـتـريـن الـزّقـورة Zigcurat بـعـد قـلـيـل. ولـكـنّ أنـظـري إلى الـيـمـيـن. هـنـاك، إلى الـمـكـان الّـذي أشـيـر إلـيـه”. سـالـت فـيـكـتـوريـا : “هـل هـذه غـيـوم ؟ لا يـمـكـنـهـا أن تـكـون جـبـالاً”. أجـابـهـا ريـشـارد : “بـلى، هـذه جـبـال كـردسـتـان الـمـغـطـاة بـالـثّـلـوج”.

وعـنـدمـا وصـلا إلى مـوقـع الـتّـنـقـيـبـات، قـدّم ريـشـارد فـيـكـتـوريـا عـلى أنّـهـا الـمـسـاعـدة الـجـديـدة، وهـو مـا كـانـت قـد ادّعـتـه، وبـدأت الـعـمـل مـعـهـم.

وفي يـوم سـألـت فـيـكـتـوريـا ريـشـارد : “أنـت تـتـقـن الـعـربـيـة، ألـيـس كـذلـك؟ لـو ارتـديـت مـلابـسـهـم فـهـل سـيـظـنـون أنّـك عـربي مـثـلـهـم ؟” فـهـزّ رأسـه نـافـيـاً : “لا، هـذا يـحـتـاج إلى إعـداد طـويـل جـدّاً. وأنـا لا أعـتـقـد أنّ إنـكـلـيـزيـاً اسـتـطـاع أبـداً أن يـنـجـح في تـقـمـص شـخـصـيـة عـربي، مـهـمـا بـقي مـعـهـم لـسـنـوات طـويـلـة”. وسـألـتـه فـيـكـتـوريـا : “ولـورنـس ؟” فـأجـابـهـا : “لا أعـتـقـد أنّ لـورنـس اسـتـطـاع في يـوم مـن الأيّـام أن يـخـدعـهـم لـيـعـتـبـروه عـربـيـاً مـنـهـم”. وأخـبـرهـا أنّ الـوحـيـد الّـذي اسـتـطـاع أن يـنـجـح في ذلـك كـان كـارمـايـكـل الّـذي يـدعى بـالـفـقـيـر Fakir لأنّـه ولـد في الـشّـرق الّـذي كـان أبـوه يـعـمـل فـيـه. وقـصّ عـلـيـهـا كـيـف أنّـه الـتـقى بـه مـتـنـكـراً في زي عـربي في الـقـنـصـلـيـة الـبـريـطـانـيـة في الـبـصـرة. وأخـبـرتـه فـيـكـتـوريـا أنّ كـارمـايـكـل قـد مـات مـقـتـولاً في فـنـدق تـيـو في بـغـداد.

ثـمّ تـركـا الـمـوقـع في شـاحـنـة في صـبـاح يـوم مـن الأيّـام وانـطـلـقـا نـحـو بـغـداد : “وكـان يـبـدو غـريـبـاً [لـهـا] أن تـسـلـك هـذه الـطّـريـق مـن جـديـد، وتـتـجـاوز الـحـمـيـر والـشّـاحـنـات الـمـغـبـرّة. وبـعـد ثـلاث سـاعـات تـقـريـبـاً وصـلا إلى ضـواحي بـغـداد. وأنـزلـتـهـمـا الـشّـاحـنـة أمـام فـنـدق تـيـو”.

والـتـقـت فـيـكـتـوريـا بـإدوارد مـن جـديـد. وبـعـد ذلـك : “قـاد إدوارد سـيـارتـه نـحـو الـجـنـوب عـبـر بـغـداد، مـارّاً بـطـريـق عـريـضـة، ثـمّ تـركـهـا سـالـكـاً طـريـقـاً وسـط غـابـات الـنّـخـيـل وتـمـايـلـت الـسّـيّـارة تـضـرب أطـراف الـطّـريـق وسـواقي الـرّي. ووصـلا أخـيـراً وبـصـورة لـم تـتـوقـعـهـا إلى حـرجـة أشـجـار صـغـيـرة تـحـيـطـهـا وتـخـتـرقـهـا سـواقي الـرّي. وكـانـت أشـجـار الـحـرجـة، وغـالـبـهـا مـن أشـجـار الـلـوز والـمـشـمـش، قـد بـدأ يـغـطـيـهـا الـنّـوار. وكـان مـكـان حـلـم. وخـلـف الـحـرجـة بـقـلـيـل كـان نـهـر دجـلـة يـجـري هـادئـأً. وخـرجـا مـن الـسّـيـارة يـسـيـران وسـط الأشـجـار الـمـتـفـتـحـة الـنّـوار. وتـنـفـسـت فـكـتـوريـا بـعـمـق وهي تـقـول : “مـا أروع هـذا ! كـأنـني عـدت إلى إنـكـلـتـرة في الـرّبـيـع. وكـان الـجـو عـذب الـحـرارة. وجـلـسـا عـلى جـذع شـجـرة كـانـت قـد سـقـطـت عـلى الأرض وفـوق رأسـيـهـمـا يـتـدلى الـنّـوار الـمـتـورّد”.

وأخـبـرت فـيـكـتـوريـا حـبـيـبـهـا إدوارد بـكـلّ مـا جـرى لـهـا. ثـمّ تـوضـحـت الـحـقـيـقـة أمـام عـيـنـيـهـا وأدركـت أنّ إدوارد كـان مـحـرك الـمـؤامـرة الّـتي كـانـت تـحـاك، فـهـو لـوسـيـفـر Lucifer الـمـلاك الّـذي طـرد مـن الـسّـمـاء الّـذي ذكـره كـارمـايـكـل قـبـل أن يـمـوت. وأنّـه هـو الّـذي خـدعـهـا ونـظّـم مـجـيـئـهـا إلى بـغـداد لـيـسـتـعـمـلـهـا في مـهـمـة لـم تـكـتـشـفـهـا بـعـد. وعـنـدمـا صـارحـت إدوارد بـذلـك أخـبـرهـا عـن مـشـروعـه : “يـنـبـغي لـلأمـور الـقـديـمـة أن تـتـحـطّـم، وأن تـنـدلـع حـرب شـامـلـة وتـامّـة تـحـطّـم كـلّ شـئ وتـخـرج مـنـهـا سـمـاء جـديـدة وأرض جـديـدة. وعـنـدهـا سـيـمـسـك شـبـاب مـثـلـه (مـن مـا فـوق مـسـتـوى الـبـشـر الـعـاديـيـن) بـزمـام الأمـور لـيـخـلـقـوا عـالـمـاً جـديـداً”. وأخـبـرهـا أنّ آنـا شـيـل لـديـهـا وثـائـق تـكـشـف الـمـؤامـرة وسـتـجـلـبـهـا إلى الـلـقـاء الّـذي سـيـعـقـد في بـغـداد ولـهـذا يـنـبـغي الـتّـخـلـص مـنـهـا.

ثـمّ : “اخـتـرقـوا بـالـسّـيّـارة ضـواحي بـغـداد. واسـتـدارت بـهـم الـسّـيّـارة لـتـدخـل في شـارع جـانـبي تـحـفّـه دور حـديـثـة شـيّـدت بـأسـلـوب أوربي مـزيّـف فـيـهـا شـرفـات وتـحـيـطـهـا حـدائـق”. وأخـذهـا إلى دار حـبـسـت فـيـهـا لـتـعـدّ لـدور سـتـمـثّـلـه. وغـيّـر لـون شـعـرهـا ومـلابـسـهـا لـكي تـؤخـذ آنـا شـيـل وتـحـلّ فـيـكـتـوريـا مـحـلـهـا فـهي تـشـبـهـهـا تـمـامـاً. وهـكـذا أخـذوهـا إلى دمـشـق لـتـركـب الـطّـائـرة الّـقـادمـة مـن لـنـدن بـاتـجـاه بـغـداد، وفي مـطـار بـغـداد كـان عـلـيـهـا أن تـصـبـح آنـا شـيـل بـعـد أن تـخـطـف آنـا شـيـل : “ولـم تـكـن الـسّـفـرة [بـالـطّـائـرة بـيـن دمـشـق وبـغـداد] طـويـلـة. ونـظـرت فـيـكـتـوريـا لـلـمـرة الـثّـانـيـة مـن الـجـو ورأت مـخـطـط الـمـديـنـة تـحـتـهـا يـقـسـمـهـا نـهـر دجـلـة إلى نـصـفـيـن وكـأنـه خـطّ عـريـض مـن الـذّهـب. وبـعـد يـومـيـن، سـيـجـتـمـع هـنـا مـسـؤولـو الإيـديـولـوجـيـتـيـن الـلـتـيـن تـتـقـاسـمـان الـعـالـم لـيـتـنـاقـشـوا في أمـور الـمـسـتـقـبـل”. وفـهـمـت أنّـهـا مـجـبـرة عـلى إكـمـال مـهـمـتـهـا لـتـنـجـح الـمـؤامـرة الّـتي تـهـدف إلى مـنـع عـقـد الـلـقـاء. ولـكـنّ داكـيـن ورجـال الـمـخـابـرات الـبـريـطـانـيـة كـانـوا قـد تـابـعـوا كـلّ مـا كـان يـجـري عـن كـثـب، وأوقـفـوا إدوارد وأنـقـذوا فـيـكـتـوريـا !

ونـقـرأ في الـفـصـل الـرّابـع والـعـشـريـن أنّ : “تـنـظـيـم بـغـداد قـد تـغـيّـر. يـحـفّ رجـال الـشّـرطـة بـالـشّـوارع، وجـاءت شـرطـة عـالـمـيـة مـن الـخـارج. وأخـيـراً بـدأ الإجـتـمـاع الّـذي لـم يـسـبـق لـه مـثـيـل”. وبـدأ الـكـلام عـن الـمـشـاريـع الـتّـخـريـبـيـة لـرجـال حـاكـوا مـؤامـرة ضـدّ الـمـؤتـمـر وضـدّ الـبـشـريـة. وأخـبـرهـم داكـيـن أنّ هـنـري كـارمـايـكـل : “كـان قـد جـمـع بـراهـيـن قـاطـعـة وبـعـثـهـا عـن طـريـق صـديـقـيـه (صـاحـبَي صـنـدوق الـدّنـيـا) لـيـحـفـظـهـا لـه صـديـق آخـرــ رجـل يـبـجـلـه كـلّ الـعـراق ويـحـتـرمـه. وقـد شـرفـنـا بـقـبـولـه الـمـجئ هـنـا هـذا الـيـوم، وأعـني بـه الـشّـيـخ حـسـيـن الـزّيـارة الـكـربـلائي Sheikh Hussein el Ziyara of Kerbela”.

“والـشّـيـخ حـسـيـن الـزّيـارة مـعـروف في الـعـالـم الإسـلامي كـرجـل ديـن وشـاعـر. ويـعـتـبـره الـكـثـيـرون مـن الأولـيـاء. وقـد وقـف الآن مـهـيـبـاً بـلـحـيـتـه الـمـضـمّـخـة بـالـحـنّـاء، تـغـطي قـمـيـصـه الـرّصـاصي الـمـوشّى بـحـواشٍ مـن الـذهـب الـمـقـصّـب عـبـاءة هـفـافـة حـيـاكـتـهـا رقـيـقـة شـفـافـة. وتـحـيـط بـرأسـه قـطـعـة قـمـاش خـضـراء لـفّ حـولـهـا عـدّة لـفّـات عـقـال ثـقـيـل مـن الـذّهـب. ويـضـفي عـلـيـه كـلّ هـذا مـظـهـر بـتـريـاركـة الـتّـوراة. وتـكـلّـم بـصـوت جـهـوري وعـمـيـق: “كـان هـنـري كـارمـايـكـل صـديـقي. عـرفـتـه طـفـلاً ودرس مـعي قـصـائـد كـبـار الـشّـعـراء. وجـاء رجـلان إلى كـربـلاء. رجـلان يـجـوبـان بـقـاع الأرض بـصـنـدوق دنـيـا : إنـسـانـان بـسـيـطـان طـيـبـا الإيـمـان، أعـطـيـاني حـزمـة كـان صـديـقي الإنـكـلـيـزي كـارمـايـكـل قـد طـلـب مـنـهـمـا أن يـوصـلاهـا لي لأحـفـظـهـا إلى أن أعـيـدهـا لـكـارمـايـكـل نـفـسـه أو لـرسـول مـنـه يـعـرف كـلـمـة الـسّـر”.

” وقـال دانـكـيـن : “يـا سـيّـد Sayyid، نـظـم الـشّـاعـر الـعـربي الـمـتـنـبّي، الّـذي يـسـمى أحـيـانـا “مـدّعي الـنّـبـوّة” والّـذي عـاش قـبـل ألـف سـنـة قـصـيـدة لـلأمـيـر سـيـف الـدّولـة في حـلـب قـال فـيـهـا:

” زدْ هِـشَّ بِـشَّ تـفـضّـلْ أدنِ سَـرِّ صِـلِ  Zid hashshi bashshi tafaddal adni surra sili”

“ونـاول الـشّـيـخ حـسـيـن الـزّيـارة الـحـزمـة لـدانـكـيـن مـبـتـسـمـاً: “أقـول كـمـا قـال الأمـيـر سـيـف الـدّولـة : لـتـنـال مـبـغـاك …”. وقـال داكـيـن : “هـا هي يـاسـادتي الأفـلام الـمـصـغـرة (مـيـكـروفـيـلـم) الّـتي كـان كـارمـايـكـل قـد جـلـبـهـا مـعـه كـبـراهـيـن عـلى مـا اكـتـشـفـه”.

ونـقـطـع كـلام الـكـاتـبـة في الـرّوايـة هـنـا لـنـلاحـظ الأخـطـاء الـلـفـظـيـة الّـتي ارتـكـبـتـهـا في كـتـابـة كـلـمـات شـطـر بـيـت الـمـتـنـبّي بـالـحـروف الـلاتـيـنـيـة (وهي الـحـروف الّـتي تـسـتـعـمـلـهـا الـلـغـة الإنـكـلـيـزيـة في الـكـتـابـة). وهـذا يـعـود بـالـتّـأكـيـد إلى ضـعـف الـمـسـتـوى الـلـغـوي لـلـذي أعـانـهـا عـلى ذلـك، وهـو إمّـا عـراقي قـلـيـل الـمـعـرفـة بـالـلـغـة الـعـربـيـة وإمّـا مـسـتـشـرق لا يـحـسـنـهـا.  والـحـقـيـقـة أنّ هـذا الـشّـطـر عـجـز بـيـت اشـتـهـر لأنّ الـشّـاعـر اسـتـعـمـل فـيـه 14 فـعـل أمـر مـتـتـالـيـة. وهـو بـكـامـلـه :

أقِـلْ أنِـلْ اقـطـعْ احـمـلْ عَـلِّ سَـلِّ أعِـدْ     زِدْ هِـشَّ بِـشَّ تـفـضَّـلْ أدنِ سَـرِّ صِـلِ

وقـد قـرأ هـذا الّـذي سـاعـد الـكـاتـبـة الّـتي تـجـهـل الـلـغـة الـعـربـيـة : هَـشِّ بَـشِّ Hashshi bashshi بـدلاً مـن هِـشَّ بِـشَّ، وسُـرَّ surra بـدلاً مـن سَـرِّ. وكـان يـكـفـيـه أن يـفـتـح أيّـة طـبـعـة لـديـوان الـمـتـنـبّي لـيـتـأكـد مـن الـقـراءة الـصّـحـيـحـة.

وطـبـعـاً فـالـرّوايـة تـنـتـهي بـحـلّ طـلاسـم آخـر كـلـمـات كـارمـايـكـل وهـو يـحـتـضـر في غـرفـة فـيـكـتـوريـا في الـفـنـدق : ونـكـتـشـف أنّ الـشّـيـطـان Lucifer كـان الـعـقـل الـمـفـكّـر لـلـمـجـمـوعـة الإرهـابـيـة، وأنّـه لـم يـكـن إلّا حـبـيـب فـيـكـتـوريـا الـكـاذب إدوارد. وأنّ الـبـصـرة مـديـنـة في جـنـوب الـعـراق، إلـتـقى فـيـهـا كـارمـايـكـل بـإدوارد. وأنّ Lefarge كـان في الـحـقـيـقـة Defarge ، شـخـصـيـة في روايـة تـشـارلـز ديـكـنـز “قـصّـة مـديـنـتـيـن”، ويـدل عـلى شـاهـد رئـيـسي رأى الأحـداث وحـول عـنـقـه لـفّـاف، وأنّ كـارمـايـكـل سـجّـل عـلى هـذا الـلـفـاف الأحـمـر أسـمـاء الـمـجـرمـيـن. ونـكـتـشـف أنّ الـجـمـعـيـة الإجـرامـيـة كـانـت تـنـوي إنـتـاج سـلاح رهـيـب يـدمّـر الـعـالـم، وكـانـت تـريـد أن تـوقـف كـارمـايـكـل قـبـل أن يـصـل إلى بـغـداد ويـكـتـشـف خـطـطـهـا. ولا يـنـبـغي أن نـنـسى أنّ الـرّوايـة نـشـرت في 1951، في فـتـرة كـان الـنّـاس فـيـهـا يـخـافـون مـن انـدلاع حـرب جـديـدة.

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) نـجـد اسـم عـبـدُل Abdul مـرتـيـن في هـذه الـرّوايـة. وهـو يـأتي مـن سـوء تـقـطـيـع لـفـظي لـلإسـم الـمـركّـب مـن عـبـد وأحـد أسـمـاء الله الـحـسـنى مـثـل : عـبـد الـبـاقي أو عـبـد الـغـفّـار … إلـخ. فـهـو إذن تـقـلـيـص عـبـد وأداة الـتّـعـريـف (ألـ).

 

©   حـقـوق الـنّـشـر مـحـفـوظـة لـلـدّكـتـور صـبـاح كـامـل الـنّـاصـري

يـرجى طـلـب الإذن مـن الـكـاتـب قـبـل إعـادة نـشـر هـذا الـمـقـال.

نُشرت بواسطة

alnasserys

صـبـاح الـنّـاصـري، دكـتـور في الآداب، مـقـيـم في مـنـطـقـة الـنّـورمـانـدي في فـرنـسـا

أضف تعليق